اللهم إنا نعوذ بعزتك و جلالك من شتات الأمر و من ضيق الصدر و من عذاب القبر و من حلول الفقر و من تقلب الدهر و من العسر بعد اليسر و من العقوق بعد البر و امنن علينا يا إلهنا يا مولانا بدوام العافية و الستر فى الدنيا و الآخرة و صحبة حبيبك محمد صلى الله عليه و سلم فى الجنة .. آمين .
أول منازل العبودية هى " اليقظة " و هى انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين ، و لله ما أنفع هذه الروعة ! و ما أعظم قدرها ! و ما أشد إعانتها على السلوك ! فمن أحس بها فقد أحس و الله بالفلاح ، و إلا فهو فى سكرات الغفلة ، فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى ، و أوطانه التى سبى منها .
فحى على جنات عدن فإنها
منازلك الأولى و فيها المخيم
و لكننا سبى العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا و نسلم ؟
فأخذ فى أهبة السفر ، فانتقل إلى منزلة " العزم " و هو العقد الجازم على المسير ، و مفارقة كل قاطع و معوق ، و مرافقة كل معين و موصل ، و بحسب كمال انتباهه و يقظته يكون عزمه .
قال الله تعالى : " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التى كنتم توعدون " ( فصلت - 30 ) . و قال : " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون " ( الأحقاف ، 13-14 ) . و قال لرسوله صلى الله عليه و سلم : " فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير " ( هود - 112 ) . فبين أن الإستقامة ضد الطغيان ، و هو مجاوزة الحدود فى كل شيء . و قال تعالى : " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه و استغفروه " ( فصلت - 6 ) . و قال تعالى : " و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا " ( الجن - 16 ) . سئل صديق الأمة و أعظمها استقامة - أبو بكر الصديق رضى الله عنه - عن الإستقامة فقال : " أن لا تشرك بالله شيئا " يريد الإستقامة على محض التوحيد . و قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " الاستقامة : أن تستقيم على الأمر و النهى ، و لا تروغ روغان الثعالب " . و قال عثمان بن عفان رضى الله عنه : " استقاموا : أخلصوا العمل لله " . و قال على بن أبى طالب ، و ابن عباس رضى الله عنهما : " استقاموا : أدوا الفرائض " . و قال الحسن : " استقاموا على أمر الله ، فعملوا بطاعته ، و اجتنبوا معصيته ". و قال مجاهد : " استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله " . و قال شيخ الإسلام بن تيمية - قدس الله روحه - " استقاموا على محبته و عبوديته ، فلم يلتفتوا عنه يمنة و لا يسرة . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " قل آمنت بالله ثم استقم " .
و قال عليه الصلاة و السلام : " استقيموا و لن تحصوا و اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة و لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " . و المطلوب من العبد الاستقامة و هى السداد ، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة ، فإن نزل عنها : فالتفريط و الإضاعة و قد قال النبى صلى الله عليه و سلم : " سددوا و قاربوا ، و اعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله " قالوا : و لا أنت يا رسول الله ؟ قال : " و لا أنا ، إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه و فضل " . و المقاربة هى أن يقربوا من الإستقامة بحسب طاقتهم ، كالذى يرمى إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ، و مع هذا فأخبرهم : أن الاستقامة و المقاربة لا تنجى يوم القيامة ، فلا يركن أحد إلى عمله ، و لا يعجب به ، و لا يرى أن نجاته به ، بل إنما نجاته برحمة الله و عفوه و فضله . فالاستقامة كلمة جامعة ، آخذة بمجامع الدين ، و هى القيام بين يدى الله على حقيقة الصدق ، و الوفاء بالعهد . و الإستقامة تتعلق بالأقوال و الأفعال و الأحوال و النيات فالاستقامة فيها : وقوعها لله ، و بالله ، و على أمر الله . قال بعض العارفين : " كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة فى طلب الكرامة و ربك يطالبك بالاستقامة . و قال بن تيمية : " أعظم الكرامة لزوم الاستقامة " .
قيل إن أبا عمرو بن نجيد فى ابتداء أمره اختلف إلى مجلس أبى عثمان ، فأثر فى قلبه كلامه فتاب ، ثم وقعت له فترة ، فكان يهرب من أبى عثمان إذا رآه و يتأخر عن مجلسه ، فاستقبله أبو عثمان يوما فحاد أبو عمرو عن طريقه و سلك طريقا آخر فتبعه أبو عثمان ، فما زال يقفو أثره حتى لحقه ، فقال له : يا بنى لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما ، إنما ينفعك أبو عثمان فى مثل هذه الحالة ، فتاب أبو عمرو و عاد إلى الإرادة و سار فيها .
أشار قوم بالفناء إلى سقوط الأوصاف الذميمة ، و أشاروا بالبقاء إلى بروز الأوصاف المحمودة ، و إذا كان العبد لا يخلو من أحد هذين النوعين من الأوصاف فمن المعلوم أنه إذا لم يوجد عند الإنسان أحد القسمين وجد الآخر لا محالة ، فمن فنى عن أوصافه الذميمة ظهرت عليه الصفات المحمودة ، و من غلبت عليه الصفات المذمومة استترت عنه الصفات المحمودة .
و اعلم أن ما يتصف به العبد يشمل أفعالا و أخلاقا و أحوالا : فالأفعال هى تصرفات الإنسان باختياره ، و الأخلاق جبلة فيه ، و لكنها تتغير بمعالجته حسب استمرار عاداته ، و أما الأحوال فإنها ترد على العبد على وجه الإبتداء ، و لكن صفاءها بعد زكاء الأعمال ، فهى كالأخلاق من هذا الوجه ، لأن العبد إذا نازل الأخلاق بقلبه فينفى بجهده سفسافها من الله عليه بتحسين أخلاقه ، فكذلك إذا واظب على تزكية أفعاله ببذل ما وسعه من الله عليه بتصفية أحواله ، بل بتوفية أحواله .
يقول الشاعر :
فقوم تاه فى أرض بقفر .. و قوم تاه فى ميدان حبه
فأفنوا ثم أفنوا ثم أفنوا .. و أبقوا بالبقا من قرب ربه
فالأول فناء عن نفسه و صفاته ببقائه بصفات الحق ، ثم فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه فى وجود الحق .