الغالب أن الإنسان يتغير ، ثم يغتاظ ، ثم تنفجر ثورته إذا اقتحمت نفسه ، كما يقتحم العدو بلدا سقط فى قبضته و أعلن الإستسلام . أما إذا أيقن أن عدوه يحاول المستحيل باستفزازه ، و أنه مهما بذل فلن يجرحه ، فإن هذه الطمأنينة تجعله يتلقى الضربات بهدوء ، أو بابتسام ، أو بسخرية .
الرجل العظيم حقا كلما حلق فى آفاق الكمال اتسع صدره ، و امتد حلمه ، و عذر الناس من أنفسهم ، و التمس المبررات لأغلاطهم . فإذا عدا عليه غر يريد تجريحه ، نظر إليه من قمته كما ينظر الفيلسوف إلى صبيان يعبثون فى الطريق و قد يرمونه بالأحجار . و قد رأينا الغضب يشتط بأصحابه إلى حد الجنون عندما تقتحم عليهم نفوسهم . أفلو كان الشخص يعيش وراء أسوار عالية من فضائله يحس بوخز الألم على هذا النحو الشديد ؟ كلا . إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد . و هذا المعنى يفسر لنا حلم " هود " و هو يستمع إلى إجابة قومه بعدما دعاهم إلى توحيد الله ، قالوا :
" إنا لنراك فى سفاهة و إنا لنظنك من الكاذبين . قال يا قوم ليس بى سفاهة و لكنى رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربى و أنا لكم ناصح أمين " ( سورة الأعراف : 66 - 68 )
إن شتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم هود لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا ، فهو فى الذؤابة من الخير و البر ، و بين قوم سفهوا أنفسهم ، و تهاووا على عبادة الأحجار.
ما يضير البحر أمسى زاخرا
إن رمى فيه غلام بحجر ؟
يروى أن رجلا سب الأحنف بن قيس - و هو يماشيه فى الطريق - فلما قرب من المنزل وقف الأحنف و قال : يا هذا ، إن كان بقى معك شيء فقله ههنا ، فإنى أخاف إن سمعك فتيان الحى أن يؤذوك .
و قال رجل لأبى ذر : أنت الذى نفاك معاوية من الشام ؟ لو كان فيك خير ما نفاك !!
فقال : يا ابن أخى ، إن ورائى عقبة كؤودا ، إن نجوت منها لم يضرنى ما قلت ، و إن لم أنج منها فأنا شر مما قلت !!
و شتم رجل الشعبى فقال له : إن كنت صادقا فغفر الله لى ، و إن كنت كاذبا فغفر الله لك .
و شتم رجل أبا ذر الغفارى فقال له أبو ذر : يا هذا لا تغرق فى شتمنا ، و دع للصلح موضعا ، فإنا لا نكافيء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
و مر المسيح بقوم من اليهود فقالوا له شرا ، فقال لهم خيرا ، فقيل له : إنهم يقولون شرا و تقول لهم خيرا ؟ فقال : كل واحد ينفق مما عنده .
و قيل لقيس بن عاصم : ما الحلم ؟ قال : أن تصل من قطعك ، و تعطى من حرمك ، و تعفو عمن ظلمك ..
و قال على : من لانت كلمته وجبت محبته ، و حلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
" ثلاث من كن فيه آواه الله فى كنفه ، و ستر عليه برحمته ، و أدخله فى محبته : من أذا أعطى شكر ، و إذا قدر غفر ، و إذا غضب فتر " .
استب رجلان عند النبى صلى الله عليه و سلم ، فجعل أحدهما يغضب و يحمر وجهه و تنتفخ أوداجه ، فنظر إليه النبى صلى الله عليه و سلم فقال : " إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
قال سبحانه و تعالى :
" فمن عفا و أصلح فأجره على الله "
( سورة الشورى - 40 )
و روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم :
" إذا جمع الله الخلائق نادى مناد : أين أهل الفضل ؟ قال فيقوم ناس - و هم يسير - فينطلقون سراعا إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون : و ما فضلكم ؟ فبقولون : كنا إذا ظلمنا صبرنا ، و إذا أسىء إلينا حلمنا . فيقال لهم أدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين " .
السلام عليكم و رحمة الله
شرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق