من درجات الإخبات أن يستوى عند المؤمن المدح و الذم ، و تدوم لائمته لنفسه ، و يعمى عن نقصان الخلق عن درجته . إعلم أنه متى استقرت قدم العبد فى منزلة " الإخبات" و تمكن فيها ارتفعت همته و علت نفسه عن خطفات المدح و الذم فلا يفرح بمدح الناس ، و لا يحزن لذمهم ، و هذا وصف من خرج عن حظ نفسه ، و تأهل للفناء فى عبودية ربه ، و صار قلبه مطرحا لآشعة أنوار الأسماء و الصفات ، و باشر حلاوة الإيمان و اليقين قلبه ، و الوقوف عند مدح الناس و ذمهم علامة انقطاع القلب ، و خلوه من الله ، و أنه لم تباشره روح محبته و معرفته ، و لم يذق حلاوة التعلق به و الطمأنينة إليه .
و صاحب هذا المنزل لا يرضى عن نفسه ، و المراد بالنفس عند القوم : ما كان معلولا من أوصاف العبد ، مذموما من أخلاقه و أفعاله ، سواء كان ذلك كسبيا ، أو خلقيا . و فى ذلك قوله تعالى : " و لا أقسم بالنفس اللوامة " ( سورة القيامة : 2 ) . قيل : هى النفس المؤمنة ، إن المؤمن - و الله - ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمة كذا ؟ ما أردت بأكلة كذا ؟ ما أردت بكذا ؟ و إن الفاجر يمضى قدما قدما ، و لا يحاسب نفسه و لا يعاتبها .
و القصد : أن من بذل نفسه لله بصدق كره بقاءه معها ، لأنه يريد أن يتقبلها من بذلت له ، و لأنه قد قربها له قربانا ، و من قرب قربانا فتقبل منه ، ليس كمن رد عليه قربانه ، فبقاء نفسه معه دليل على أنه لم يتقبل قربانه . و أيضا فإنه من قواعد القوم المجمع عليها بينهم ، التى اتفقت كلمة أولهم و آخرهم ، و محقهم و مبطلهم عليها : أن النفس حجاب بين العبد و بين الله ، و أنه لا يصل إلى الله حتى يقطع هذا الحجاب . خل نفسك و تعال . فالنفس جبل عظيم شاق فى طريق السير ألى الله عز و جل ، و كل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل ، فلابد أن ينتهى إليه ، و لكن منهم من هو شاق عليه ، و منهم من هو سهل عليه ، و إنه ليسير على من يسره الله عليه . و فى ذلك الجبل أودية و شعاب ، و عقبات و وهود ، و شوك و عوسج ، و عليق و لصوص يقطعون الطريق على السائرين و لا سيما أهل الليل المدلجين ، فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان ، و مصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات ، و إلا تعلقت بهم تلك الموانع ، و تشبثت بهم تلك القواطع ، و حالت بينهم و بين السير .
فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه و اقتحام عقباته ، و الشيطان على قمة ذلك الجبل ، يحذر الناس من صعوده و ارتفاعه ، و يخوفهم منه ، و المعصوم من عصمه الله . و كلما رقى السائر فى ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع ، و تحذيره و تخويفه . فإذا قطعه و بلغ قمته : انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا ، و حينئذ يسهل السير ، و تزول عنه عوارض الطريق ، و مشقة عقباتها ، و يرى طريقا واسعا آمنا يفضى به إلى المنازل و المناهل ، و عليه الأعلام ، و فيه الإقامات ، و قد أعدت لركب الرحمن . فبين العبد و بين السعادة و الفلاح : قوة العزيمة ، و صبر ساعة ، و شجاعة نفس ، و ثبات قلب ، و الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، و الله ذو الفضل العظيم .
و إن كان أعلى ممن هو دونه من الناقصين عن درجته - إلا أنه لاشتغاله بالله ، و امتلاء قلبه من محبته و معرفته ، و الإقبال عليه : يشتغل به عن ملاحظة حال غيره ، و عن شهود النسبة بين حاله و أحوال الناس ، و يرى اشتغاله بذلك و التفاته إليه نزولا عن مقامه ، و انحطاطا عن درجته ، و رجوعا على عقبيه ، فإن هجم عليه ذلك فليداوه بشهود المنة ، و خوف المكر ، و عدم علمه بالعاقبة التى يوافى عليها ، و الله المستعان .
مدارج السالكين
الإمام / شمس الدين ابن قيم الجوزية
السلام عليكم و رحمة الله
شرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق